رأي

د. أحمد رفيق عوض

مطربة وفيلسوفة في آن معاً

● عندما تطلق مطربة خليجية آراءها، كما تطلق جسدها امام كاميرا "التيك توك"، وتتحدث في السياسة والفلسفة والدين وعلم الاجتماع وعلم الاجنة وعلم الانثروبولوجيا، فان هذه الفانتازيا باتت تنسحب على كل شيء في حياتنا!
توضيحية

عندما كتب الراحل ادوارد سعيد عن تحية كاريوكا صورها نموذجاً للمتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تميزت بالاضطراب والخلخلة والبحث عن معان ومضامين، لكنه لم ينسَ ان يشير الى مزاياها الشخصية التي جعلت منها استثناءً في عالم الفن وعالم  السياسة ايضاً. وعندما كتبت الشاعرة والمترجمة اللبنانية جمانة حداد مقالها عن احدى نجمات الاباحية العربية، يمكن القول انها دافعت عنها عند مقارنتها بمن يبيع شرفه وارضه من المسؤولين وغيرهم.

 والحقيقة ان الكتابة عن "الفنانات" كان قديما جدا، ذلك ان الاصبهاني في اغانيه كتب عن "فنانات" مكة والمدينة ابان الحكم الأموي، وصور الاصبهاني بقلم جريء يصل الى حد التبذّل سلوك هؤلاء الفنانات والشاذين وتصرفاتهم العلنية كتعبير عن انفلات وتحلل من صرامة الدولة الراشدية وذلك لاسباب لا تخفي على احد. 

اقول هذا بمناسبة الحديث عن مطربة خليجية جريئة واشكالية تطلق اراءها السياسية والفكرية والدينية كما تطلق جسدها امام كاميرا "التيك توك" او غيره، وهي تتحدث في كل شيء، الفلسفة والدين وعلم الاجتماع وعلم الاجنة وعلم الانثروبولوجيا ايضاً، وفي حوار بينها وبين اعلامية خليجية اخرى، لم تستطع هي ولا محاورتها من تحديد مكان المسجد الاقصى ولا المسافة بين القدس وتل ابيب، وتحدثتا عن الاحتلال بكثير من الأريحية وعدم الرفض او الاستنكار.

"تحدّثت عن الاحتلال بكثير من الأريحية، بينما لم تستطع تحديد مكان المسجد الأقصى" | خاصة

هذه المطربة الفيلسوفة التي تحتل مساحات كبيرة من شاشات الاعلام الرسمي والاهلي وتظهر على رسائل التواصل الاجتماعي"بكامل مشمشها" على رأي محمود درويش، لا تبخل علينا ولا على  الاجيال الجديدة باطلاق الحكم والرؤى والمواقف التي تدعو الى الانطلاق وتدمير الماضي والسخرية من الواقع وعبادة الحرية التي لا تتعدى حرية الجسد او حرية ترك المعتقد. واذا اضفنا الى اقوال هذه الفليسوفة ما تتفوه به فنانات وفنانين غيرها حول المساكنه وحرية ما قبل الازواج وتأييد المثلية وانكار الاديان او بعض ما جاء فيها، فاننا امام موجه خطيرة من موجات الهدم المجاني دون الرغبة بالبناء ودون وجود بدائل حقيقية او رؤية صلبة للانطلاق منها.

ان هذا التحلل والانحلال، حيث يُسند الامر الى غير اهله، وحيث المطلوب هو التشكيك والتحطيم يشبه تماما ما يجري في مستويات اخرى، مثل انتشار القراءات الباطنية التأويلية للقرآن الكريم حيث يمكن تمزيق النص او تحريفه او تطويعه لكل هوى ولكل مصلحة، وحيث انتشار دعوات التطبيع المجاني حيث يغيب المقدس والمحظور والمسموح، وحيث تغيب حدود المصلحة وحدود الكرامة ايضاً، وحيث تنتشر ثقافة الاستهلاك والسلعة والشعبوية والعري، وحيث يتم تدمير المجتمع ذاته من خلال تكدسه في المدن بحثاً عن الربح السريع او الاعتماد على الدولة المرهقة المثقلة التي تعاني من كل شيء سوى مراكمتها للقوة الغاشمة، فيما يتم افقار الريف وتخريبه، وحيث تنتشر ثقافة التطرف والتكتل والتقوقع على حساب قيم الجماعة والوطن والدولة.

 ان هذا التخريب المتعدد الجوانب، المتشابه في النتيجة المختلف في الادوات يقود الى واقع كارثي تماماً، الى درجة ان كل من في  الكوكب يعتدي علينا وعلى ثقافتنا، فهناك من يمزق المصحف ويصر على ذلك، وهناك من يعتدي على المسلمين ويذبحهم ويحرقهم دون محاسبة، وهناك من يعلن معاداته الرسمية للمسلمين وثقافتهم ومساجدهم. لكننا في المقابل نقدم له كل المساعدة والعون. 

فعندما تكون المطربة فيلسوفة، تعلمنا مبادئ الحرية واهمية المغامرة والبحث عن الجديد وكسر المألوف، فان هذه الفانتازيا تنسحب على كل شيء. فتدمير الدولة وتفكيك المجتمع، والارتماء في حضن المحتل مرة اخرى، والانبهار والانسحاق امام الاجنبي وانتظار الحلول منه وتلقي مساعداته والاستقواء به، يجعل من واقعنا على ما نحن عليه. ولا ألوم هذه المطربة الفيلسوفة ولا اسخر منها ولا اهينها، فهي نتيجة وليست سبباً، وفي بعض الاحيان قد تكون النتائج اغرب واعجب من اسبابها. ولحسن الحظ او لسوءه، فان وسائل الاتصال الجديدة فجرت كوامن كل شيء واخرجت اسوأ ما في الانسان او  اظهرت جانبه الذي لا يظهره على الناس. 

يقول منظرو الاعلام - او بعضهم  على الأقل - ان الوسيلة الاعلامية تغيّر المجتمع رغماً عنه. وبعيداً عن مناقشة هذا القول، الا ان هذه الوسائل، اردنا ام لن نرد، جعلت منا جميعاً ، مطربين وفلاسفة ندعم التطبيع المجاني والباذنجاني والتطبيع الكلي والتطبيع النصفي والتطبيع نصف استواء - وهو تطبيع لم يعد شبراً من الارض، ولا حرر حجراً من الاقصى، ولكننا نصر على تسميته مصلحة او استرضاءً او وقاية او استجلابًا لمنفعة او دفعًا لضرر.. ولا حول ولا قوة  الا بالله العلي العظيم. 

● الكاتب رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية - جامعة القدس

bar_chart_4_bars مقالات متعلقة

عن تصريحات خليل الحية؛ كأننا إزاء "حماس"...

2024/05/15 15:48

رفح... حافّة لكل شيء

2024/05/14 03:28

لماذا عجز اشقاؤنا العرب عن إنقاذنا حتى...

2024/05/14 02:53

على وقع عملية رفح وموقف واشنطن: طريق...

2024/05/12 10:34

ماذا وراء الرصيف العائم في غزة؟!

2024/05/07 16:03