رأي

د. أحمد رفيق عوض

جون كيربي.. ملك الدراما

لديه قدرة بلاغة وقاموس كبير من المفردات يستطيع من خلاله ان يصوغ موقف بلاده السياسي والعسكري او حتى الاخلاقي بطريقة خليطة ما بين السذاجة والخبث والذكاء وتصنّع الغباء وانكار الواقع او تخيّله او خلقه
جون كيربي | تصوير: ويكبيديا

نحن بصدد شخصية رفيعة وتكاد تكون صورة و نموذجًا حقيقيًا ولامعًا للنجاح بمعناه الامريكي و العالمي ايضًا. نحن نتحدث عن جون كيربي، منسق مجلس الأمن القومي الامريكي للاتصالات الاستراتيجية، اذ ان سيرته الذاتية والعملية تعكس هذا الجهد والدأب و النجاح بل واللمعان ايضًا.

فمن متحدث بأسم وزارة الحرب الى متحدث بأسم الخارجية الامريكية وهو منصب رفيع و هام في الحياة الدبلوماسية الامريكية والعالمية، وأخيرًا الى متحدث بأسم أهم وأرفع مجلس أمني قومي للولايات المتحدة. 

جون كيربي مثير للانتباه، فهو كاثوليكي مثلاً، بعكس اغلبية النخبة الأمريكية التي تنتمي الى البروتستانت، وكانت أولى درجاته الجامعية في الفنون، ولكنه انتقل سريعًا الى الخدمة العسكرية في البحرية الامريكية، حصل بعدها على درجتي ماجستير في العلاقات الدولية والأمن القومي والدراسات العسكرية برتبة لواء. بكلمات اخرى، نحن أمام رجل كامل الأوصاف، سيرته الذاتية والعملية سيرة مشرفة ومصقولة تخلو من العيوب و الشوائب، وتتميز بالمرونة والتقدم والنجاح وتسنم المناصب الأكثر أهمية في الحياة السياسية الامريكية. وربما يشكل هذا النموذج حلم كثير من الشبان الامريكيين الراغبين في الانخراط في الحياة العملية الامريكية التي تتميز بالتنافس الشديد والمعايير الدقيقة والشديدة ايضًا.

"يزم شفتيه ثم يفردهما، لتبدو المسافة واضحة بين مواقف امريكا وما تدعيه من مبادئ وقيم" | تصوير: ويكبيديا

هذه الشخصية الرفيعة، التي تمثل الشخصية الامريكية والسياسية الامريكية والثقافة الامريكية، تتميز بكل ما سبق من صفات ومزايا، فهي مرنة بما يكفي لأن تتبرأ من اي موقف سابق، وان تبرر كل جريمة او تجمّلها او تسوقها او تنقلها من مفهوم الى مفهوم. 

جون كيربي بعضلات وجهه المرنة وسهلة الحركة والقادرة على تمثيل اي موقف مهما بلغ تعقيده، ونظرة عينيه الثاقبتين وحركة شفاهه الرفيعة التي يضيف بها على كلماته معنى آخر، كل ذلك جعل منه نموذجًا حقيقيًا وملموساً للموقف الامريكي على اطلاقه، فهي تستطيع ان تتخذ الموقف ونقيضه بنفس اللحظة، وهو يستطيع ان يكون نصيرًا للانسانية وحقوق الانسان هنا و ان يكون عكس ذلك هناك.

 لديه قدرة بلاغة وقاموس كبير من المفردات يستطيع من خلاله ان يصوغ موقف بلاده السياسي والعسكري او حتى الاخلاقي بطريقة خليطة ما بين السذاجة والخبث والذكاء وتصنّع الغباء وانكار الواقع او تخيّله او خلقه. 

لغة هذا الرجل لغة تشبه سياسة بلاده وتاريخها ايضًا، فهي لغة الاطماع والعدوانية والشهوانية والاستعلاء في غلاف من ادعاء الاخلاقية والتنويرية والحداثة، لغة مضحكة عندما تدعي الرفعة والاخلاقية والقانونية فيما هو تسويغ للاحتلال والاستحواذ والدفاع عن المصالح.

المشكلة هنا، كما تتجلى لدى جون كيربي ان الرجل ـ و رغم ذكائه بالتأكيد ـ يجهد نفسه في البحث عن صياغات لغوية بالغة الدقة للتعبير عن الموقف الامريكي المتناقض، ولأن الرجل ـ لخلفيته الفنية ربما او خلفيته الكاثوليكية ربما ـ يشعر بهذا التناقض، فتتحرك عضلات وجهه وشفاهه بطريقة يتضح فيها التناقض بين الموقف الاخلاقي والموقف السياسي بطريقة يبدو فيها الرجل غير واثق على الاطلاق من كلامه، فيرتبك ويرمي بصره الى الارض، ويهز قبضته في الهواء، ويزم شفتيه ثم يفردهما، لتبدو المسافة واضحة بين مواقف امريكا وما تدعيه من مبادئ وقيم.

يبدو الرجل في لقاءاته الصحفية ملكًا للدراما حقًا، ذلك ان الممثل الحق يعرف ان الكلام له جسد وان الجسد له كلام وانه لا يمكن الفصل بينهما. و كيربي، الذي تعوّدنا على تصريحاته وكلامه وعضلات وحهه، يعرف تمامًا انه يعبّر عن سياسات بلاده لا عن قيمها. وما يجري في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية اكبر دليل على ان الحقوق لا يمكن ان تُغطّى بغربال او تمحى لمجرد بلاغة فائقة او قدرة مميزة على التخلّص من الحرج او الاحراج. 

● الكاتب رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية - جامعة القدس

bar_chart_4_bars مقالات متعلقة

ماذا وراء الرصيف العائم في غزة؟!

2024/05/07 16:03

الهجوم على المقر.. والدعوة إلى الحوار

2024/04/27 18:34

بداية التغيير في القيادة الأمنية...

2024/04/26 12:08

اجتماع السبعة: خطاب الاستعداء؛ اجتماع...

2024/04/22 18:52

أين يذهب التحليل الآن؟

2024/04/20 10:06